الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)} مثل الجنة أي: صفتها التي هي في غرابة المثل، وارتفع مثل على الابتداء في مذهب سيبويه، والخبر محذوف أي: فيما قصصنا عليكم مثل الجنة، وتجري من تحتها الأنهار تفسير لذلك المثل. تقول: مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم، وليس هنا ضرب مثل لها فهو كقوله تعالى: {وله المثل الأعلى} أي الصفة العليا، وأنكر أبو عليّ أن يكون مثل بمعنى صفة قال: إنما معناه التنبيه. وقال الفراء: أي صفتها أنها تجري من تحتها الأنهار، ونحو هذا موجود في كلام العرب انتهى. ولا يمكن حذف أنَّها، وإنما فسر المعنى ولم يذكر الإعراب. وتأول قوم على القرآن مثل مقحم، وأنّ التقدير: الجنة التي وعد المتقون تجري، وإقحام الأسماء لا يجوز. وحكوا عن الفراء أنّ العرب تقحم كثيراً المثل والمثل، وخرج على ذلك: {ليس كمثله شيء} أي: كهو شيء. فقال غيرهما: الخبر تجري، كما تقول: صفة زيد اسمر، وهذا أيضاً لا يصح أن يكون تجري خبراً عن الصفة، وإنما يتأول تجري على إسقاط أنْ ورفع الفعل، والتقدير: أنْ تجري خبر ثان الأنهار. وقال الزجاج: معناه مثل الجنة جنة تجري على حذف الموصوف تمثيلاً لما غاب عنا بما نشاهد انتهى. وقال أبو علي: لا يصح ما قال الزجاج، لا على معنى الصفة، ولا على معنى الشبه، لأن الجنة التي قدرها جنة ولا تكون الصّفة، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين وهو حدث، والجنة جنة فلا تكون المماثلة. وقرأ علي وابن مسعود: مثال الجنة على الجمع أي: صفاتها. وفي اللوامح على السلمى أمثال الجنة جمع، ومعناه: صفات الجنة. وذلك لأنها صفات مختلفة، فلذلك جمع نحو الحلقوم والإسعال. والأكل ما يؤكل فيها، ومعنى دوامه: أنه لا ينقطع أبداً، كما قال تعالى: {لا مقطوعة ولا ممنوعة} وقال إبراهيم التيمي: أي لذاته دائمة لا تزاد بجوع ولا تمل من شبع. وظلها أي: دائم البقاء والراحة، لا تنسخه شمس، ولا يميل لبرد كما في الدنيا. أي: تلك الجنة عاقبة الذين اتقوا أي: اجتنبوا الشرك.
{وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)} نزلت في مؤمني أهل الكتابين، ذكره الماوردي، واختاره الزمخشري فقال: من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً: أربعون من نجران، وثمانية من اليمن، وإثنان وثلاثون من الحبشة. ومن الأحزاب يعني: ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو: كعب بن الأشرف وأصحابه، والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما، من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم غير محرف، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام، ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مما حرفوه وبدلوه انتهى. وعن ابن عباس، وابن زيد: في مؤمني اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، وعن قتادة في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، مدحهم الله تعالى بأنهم يسرون بما أنزل إليك من أمر الدين. وعن مجاهد، والحسن، وقتادة: أن المراد بأهل الكتاب جميعهم يفرحون بما أنزل من القرآن، إذ فيه تصديق كتبهم، وثناء على أنبيائهم وأحبارهم ورهبانهم الذين هم على دين موسى وعيسى عليهما السلام. وضعف هذا القول بأنّ همهم به أكثر من فرحهم، فلا يعتد بفرحهم. وأيضاً فإنّ اليهود والنصارى ينكرون بعضه، وقد قذف تعالى بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب. والأحزاب قال مجاهد: هم اليهود، والنصارى، والمجوس. وقالت فرقة: هم أحزاب الجاهلية من العرب. وقال مقاتل: الأحزاب بنو أمية، وبنو المغيرة، وآل أبي طلحة. ولما كان ما أنزل إليه يتضمن عبادة الله ونفي الشريك، أمر بجواب المنكرين، فقيل له: قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به، فإنكاركم لبعض القرآن الذي أنزل لعبادة الله وتوحيده، وأنتم تدعون وجوب العبادة ونفي الشريك إليه، أدعوا إلى شرعه ودينه، وإليه مرجعي عند البعث يوم القيامة في جميع أحوالي في الدنيا والآخرة. وقرأ أبو جليد عن نافع: ولا أشرك بالرفع على القطع أي: وأنا لا أشرك به. وجوز أن يكون حالاً أي: أنْ أعبد الله غير مشرك به. وكذلك أي: مثل إنزالنا الكتاب على الأنبياء قبلك، لأن قوله: والذين آتيناهم الكتاب، يتضمن إنزاله الكتاب، وهذا الذي أنزلناه هو بلسان العرب، كما أن الكتب السابقة بلسان من نزلت عليه: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} وأراد بالحكم أنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم. وقال ابن عطية: وقوله وكذلك المعنى: كما يسرنا لهؤلاء الفرح ولهؤلاء الإنكار لبعض كذلك أنزلناه حكماً عربياً انتهى. وانتصب حكماً على الحال من ضمير النصب في أنزلناه، والضمير عائد على القرآن، والحكم ما تضمنه القرآن من المعاني. ولما كانت العبارة عنه بلسان العرب نسبه إليها. ولئن اتبعت: الخطاب لغير الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه معصوم من اتباع أهوائهم. وقال الزمخشري: هذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه. أن لا يزال زال عند الشبه بعد استمساكه بالحجة، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الشكيمة بمكان.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)} المحو الإزالة محوت الخط أذهبت أثره ومحا المطر رسم الدار أذهبه وأزاله ويقال في مضارعه يمحو ويمحي لأن عينه حرف حلق والإثبات ضد محو. {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب. يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}: قال الكلبي: عيرت اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبياً كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء، فنزلت هذه الآية. قيل: وكانوا يقترحون عليه الآيات وينكرون النسخ، فرد الله تعالى عليهم بأنّ الرسل قبله كانوا مثله ذوي أزواج وذرية، وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم، ولا يأتون بما يقترح عليهم. ومن الشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، فلكل وقت حكم يكتب فيه على العباد أي: يفرض عليهم ما يريده تعالى. وقوله: لكل أجل كتاب، لفظ عام في الأشياء التي لها آجال، لأنه ليس منها شيء إلا وله أجل في بدئه وفي خاتمته، وذلك الأجل مكتوب محصور. وقال الضحاك والفراء: المعنى لكل كتاب أجل، ولا يجوز ادعاء القلب إلا في ضرورة الشعر وأما هنا فالمعنى في غاية الصحة بلا عكس ولا قلب بل ادعاء القلب هنا لا يصح المعنى عليه، إذ ثم أشياء كتبها الله تعالى أزلية كالجنة ونعيم أهلها، لا أجل لها. والظاهر أنّ المحو عبارة عن النسخ من الشرائع والأحكام، والإثبات عبارة عن دوامها وتقررها وبقائها أي: يمحو ما يشاء محوه، ويثبت ما يشاء إثباته. وقيل: هذا عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة، ونسب هذا إلى: عمر، وابن مسعود، وأبي وائل، والضحاك، وابن جريج، وكعب الأحبار، والكلبي. وروي عن عمر، وابن مسعود، وأبي وائل في دعائهم ما معناه إنْ كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم، أو في الأشقياء فامحنى منهم. وإنْ صح عنهم فينبغي أن يتأول على أن المعنى: إنْ كنت أشقيتنا بالمعصية فامحها عنا بالمغفرة. ومعلوم أنّ الشقاء والسعادة والرزق والخلق والأجل لا يتغير شيء منها. وقال ابن عباس: يمحوا الله ما يشاء من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال، فإنه لا محو فيها. وقال الحسن وفرقة: هي آجال بني آدم تكتب في ليلة القدر. وقيل: في ليلة نصف شعبان آجال الموتى، فتمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الأموات. وقال قيس بن عباد: في العاشر من رجب يمحو الله ما يشاء ويثبت. وقال ابن عباس: والضحاك: يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة، لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل، ويثبت غيره. وقيل: يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة، ويثبت إيمانهم وطاعتهم. وقيل: يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضاً من الأناسي، وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها. وقال الزمخشري: يمحو الله ما يشاء، ينسخ ما يستصوب نسخه، ويثبت به له ما يرى المصلحة في إثباته، أو يتركه غير منسوخ، والكلام في نحو هذا واسع المجال انتهى. وهو وقول: قتادة، وابن جبير، وابن زيد قالوا: يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه. وقال مجاهد: يحكم الله أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، إلا الحياة والموت والشقاوة والسعادة. وقال الكلبي: يمحو من الرزق ويزيد فيه. وقال ابن جبير أيضاً: يغفر ما يشاء من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفر. وقال عكرمة: يمحو يعني بالتوبة جميع الذنوب، ويثبت بدل الذنوب حسنات. قال تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات} وقيل: ينسى الحفظة من الذنوب ولا ينسى. وقال الحسن: يمحو الله ما يشاء أجله، ويثبت من يأتي أجله. وقال السدي: يمحو الله يعني القمر، ويثبت يعني الشمس بيانه {فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} الآية. وقال ابن عباس: إنّ لله لوحاً محفوظاً وذكر وصفه في كتاب التحبير، ثم قال: لله تعالى فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء. وقال الربيع: هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها عند النوم إذا أراد موته فجأة أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه، بيانه قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} الآية. وقال علي بن أبي طالب: يمحو الله ما يشاء من القرون لقوله: {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون} ويثبت ما يشاء منها لقوله تعالى: {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين} فيمحو قرناً ويثبت قرناً. وقال ابن عباس: يمحو يميت الرجل على ضلالة وقد عمل بالطاعة الزمن الطويل، يختمه بالمعصية ويثبت عكسه. وقيل: يمحو الدنيا ويثبت الآخرة. وفي الحديث عن أبي الدرداء: «أنه تعالى يفتح الذكر في ثلاث ساعات بقين من الليل فينظر ما في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء» وقال الغزنوي: ما في اللوح المحفوظ خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة، فيحتمل التبديل وإحاطة الخلق بجميع علم الله تعالى، وما في علمه تعالى من تقدير الأشياء لا يبدل انتهى. وقيل: غير ذلك مما يطول نقله. وقد استدلت الرافضة بقوله: يمحو الله ما يشاء ويثبت، على أنّ البدء جائز على الله تعالى، وهو أنْ يعتقد شيئاً ثم يظهر له أنّ الأمر خلاف ما اعتقده، وهذا باطل لأنّ علمه تعالى من لوازم ذاته المخصوصة، وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محالاً. وأما الآية فقد احتملت تلك التأويلات المتقدمة، فليست نصاً فيما ادعوه، ولو كانت نصاً وجب تأويله. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: ويثبت مخففاً من أثبت، وباقي السبعة مثقلاً من ثبت. وأما قوله: أم الكتاب فقال ابن عباس: أم الكتاب الذكر، وقال أيضاً وهو كعب هو علم ما هو خالق وما خلقه عاملون. وقالت فرقة: الحلال والحرام، وهو قول الحسن. وقال الزمخشري: أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه انتهى. وما جرى مجرى الأصل للشيء تسميه العرب، أمّا كقولهم: أم الرأس للدماغ، وأم القرى مكة. وقال ابن عطية: وأصوب ما يفسر به أم الكتاب أنه ديوان الأمور المحدثة التي قد سبق في القضاء أن تبدل وتمحى، أو تثبت. وقال نحوه قتادة: إنّ جواب الشرط الأول محذوف، وكلام ابن عطية في ما ونون التوكيد. وقال الزمخشري: وإما نرينك، وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم، وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم، أو نتوفينك قبل ذلك، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم، فلا يهمنك إعراضهم، ولا تستعجل بعذابهم انتهى. وقال الحوفي وغيره: فإنما عليك البلاغ جواب الشرط، والذي تقدم شرطان، لأنّ المعطوف على الشرط شرط. فأما كونه جواباً للشرط الأول فليس بظاهر، لأنه لا يترتب عليه، إذ يصير المعنى: وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب فإنما عليك البلاغ. وأما كونه جواباً للشرط الثاني هو أو نتوفينك فكذلك، لأنه يصير التقدير: إن ما نتوفينك فإنما عليك البلاغ، ولا يترتب وجوب التبليغ عليه على وفاته عليه السلام، لأنّ التكليف ينقطع بعد الوفاة فيحتاج إلى تأويل وهو: أن يتقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتباً عليه. وذلك أن يكون التقدير والله أعلم وأنّ ما نرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك، ودليل على صدقك، إذا أخبرت بما يحل بهم. ولم يعين زمان حلوله بهم، فاحتمل أن يقع ذلك في حياتك، واحتمل أن يقع بهم بعد وفاتك أو نتوفينك أي: أو أن نتوفينك قبل حلوله بهم، فلا لوم عليك ولا عتب، إذ قد حل بهم بعض ما وعد الله به على لسانك من عذابهم، فإنما عليك البلاغ لا حلول العذاب بهم. إذ ذاك راجع إليّ، وعلينا جزاؤهم في تكذيبهم إياك، وكفرهم بما جئت به.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)} الضمير في أو لم يروا عائد على الذين وعدوا، وفي ذلك اتعاظ لمن اتعظ، نبهوا على أنْ ينظروا بعض الأرض من أطرافها. ونأتي يعني بالأمر والقدرة كقوله: {فأتى الله بنيانهم} والأرض أرض الكفار المذكورين، ويعني بنقصها من أطرافها للمسلمين: من جوانبها. كان المسلمون يغزون من حوالى أرض الكفار مما يلي المدينة، ويغلبون على جوانب أرض مكة، والأطراف: الجوانب. وقيل: الطرف من كل شيء خياره، ومنه قول علي بن أبي طالب: العلوم أودية، في أي واد أخذت منها خسرت، فخذوا من كل شيء طرفاً يعني: خياراً قاله ابن عطية، والذي يظهر أن معنى طرفاً جانباً وبعضاً، كأنه أشار إلى أنّ الإنسان يكون مشاركاً في أطراف من العلوم، لأنه لا يمكنه استيعاب جميعها، ولم يشر إلى أنه يستغرق زمانه في علم واحد. وقال ابن عباس والضحاك: نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك، فتنقصها بما يدخل في دينك من القبائل والبلاد المجاورة لهم، فما يؤمنهم أن يمكنه منهم. وهذا التفسير لا يتأتى إلا أن قدر نزول هذه الآية بالمدينة. وقيل: الأرض اسم جنس، والانتقاص من الأطراف بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفرة. وروي هذا عن ابن عباس أيضاً، ومجاهد، وعنهما أيضاً: الانتقاص هو بموت البشر، وهلاك الثمرات، ونقص البركة. وعن ابن عباس أيضاً: موت أشرافها وكبرائها، وذهاب الصلحاء والأخيار، فعلى هذا الأطراف هنا الأشراف. وقال ابن الأعرابي: الطرف والطرف الرجل الكريم. وعن عطاء بن أبي رباح: ذهاب فقهائها وخيار أهلها. وعن مجاهد: موت الفقهاء والعلماء. وقال عكرمة والشعبي: هو نقص الأنفس. وقيل: هلاك من أهلك من الأمم قبل قريش، وهلاك أرضهم بعدهم. والمناسب من هذه الأقوال هو الأول. ولم يذكر الزمخشري إلا ما هو قريب منه قال: نأتي الأرض أرض الكفر ننقصها من أطرافها بما يفتح على المسلمين من بلادهم، فينقص دار الحرب، ويزيد في دار الإسلام، وذلك من آيات الغلبة والنصرة. ونحوه: {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون} {سنريهم آياتنا في الآفاق} والمعنى: عليك بالبلاغ الذي حملته، ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه، ونتم ما وعدناك من الظفر، ولا يضجرك تأخره، فإنّ ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها، ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر. ويتجه قول من قال: النقص بموت الأشراف والعلماء والخيار وتقريره: أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراباً بعد عماره، وموتاً بعد حياة، وذلا بعد عز، ونقصاً بعد كمال، وهذه تغييرات مدركة بالحس. فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله الأمر عليهم ويصيرون دليلين بعد أن كانوا قاهرين. وقرأ الضحاك: ننقصها مثقلاً، من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم، والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله، وحقيقته الذي يعقبه أي: بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق: معقب، لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب. قال لبيد: طلب المعقب حقه المظلوم *** والمعنى: أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس. وقيل: تتعقب أحكامه أي: ينظر في أعقابها أمصيبة هي أم لا، والجملة من قوله: لا معقب لحكمه في موضع الحال أي: نافذ حكمه، وهو سريع الحساب تقدم الكلام على مثل هذه الجملة. ثم أخبر تعالى أن الأمم السابقة كان يصدر منهم المكر بأنبيائهم كما فعلت قريش، وأنّ ذلك عادة المكذبين للرسل، مكر بابراهيم نمروذ، وبموسى فرعون، وبعيسى اليهود، وجعل تعالى مكرهم كلا مكر إذ أضاف المكر كله له تعالى. ومعنى مكره تعالى عقوبته إياهم، سماها مكراً إذ كانت ناشئة عن المكر وذلك على سبيل المقابلة كقوله: {الله يستهزئ بهم} ثم فسر قوله فللَّه المكر، بقوله: يعلم ما تكسب كل نفس، والمعنى: يجازي كل نفس بما كسبت. ثم هدد الكافر بقوله: وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار، إذ يأتيه العذاب من حيث هو في غفلة عنه، فحينئذ يعلم لمن هي العاقبة المحمودة. وقرأ جناح بن حبيش: وسيعلم الكافر مبنياً للمفعول من أعلم أي: وسيخبر. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو: الكافر على الإفراد والمراد به الجنس، وباقي السبعة الكفار جمع تكسير، وابن مسعود: الكافرون جمع سلامة وأبي الذين كفروا، وفسر عطاء الكافر بالمستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون. وقال ابن عباس: يريد بالكافر أبا جهل. وينبغي أن يحمل تفسيره عطاء على التمثيل، لأنّ الإخبار بعلم الكافر لمن عقبى الدار معنى يعم جميع الكفار، ولما قال الكفار: لست مرسلاً أي: إنما أنت مدع ما ليس لك، أمره تعالى أن يكتفي بشهادة الله تعالى بينهم، إذ قد أظهر على يديه من الأدلة على رسالته ما في بعضها كفاية لمن وفق، ثم أردف شهادة الله بشهادة من عنده علم الكتاب. والكتاب هنا القرآن، والمعنى: إنّ من عرف ما ألف فيه من المعاني الصحيحة والنظم المعجز الفائت لقدر البشر يشهد بذلك. وقيل: الكتاب التوراة والإنجيل، والذي عنده علم الكتاب: من أسلم من علمائهم، لأنهم يشهدون نعته عليه الصلاة والسلام في كتبهم. قال قتادة، كعبد الله بن سلام، وتميم الداري، وسلمان الفارسي. وقال مجاهد: يريد عبد الله بن سلام خاصة. وهذان القولان لا يستقيمان إلا على أن تكون الآية مدنية، والجمهور على أنها مكية. وقال محمد بن الحنفية، والباقر: هو علي بن أبي طالب. وقيل: جبريل، والكتاب اللوح المحفوظ. وقيل: هو الله تعالى قاله: الحسن، وابن جبير والزجاج، وعن الحسن: لا والله ما يعني إلا الله، والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة، وبالذي لا يعلم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم. قال ابن عطية: ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف، وذلك لا يجوز، وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض انتهى. وليس ذلك كما زعم من عطف الصفة على الموصوف، لأنّ من لا يوصف بها ولا لشيء من الموصولات إلا بالذي والتي وفروعهما، وذو وذوات الطائيتين. وقوله: وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض ليس على إطلاقه، بل له شرط وهو أن تختلف مدلولاتها. ويعني ابن عطية: لا تقول مررت بزيد. والعالم فتعطف، والعالم على الاسم وهو علم لم يلحظ منه معنى صفة، وكذلك الله علم. ولما شعر بهذا الاعتراض من جعله معطوفاً على الله قدر قوله: بالذي يستحق العبادة، حتى يكون من عطف الصفات بعضها على بعض، لا من عطف الصفة على الاسم. ومن في قراءة الجمهور في موضع خفض عطفاً على لفظ الله، أو في موضع رفع عطفاً على موضع الله، إذ هو في مذهب من جعل الباء زائدة فاعل بكفى. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: أعدل وأمضى قولاً ونحو هذا مما يدل عليه لفظة شهيداً، ويراد بذلك الله تعالى. وقرئ: وبمن بدخول الباء على من عطفاً على بالله. وقرأ علي وأبي وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وسالم بن عبد الله بن عمرو بن أبي إسحاق، ومجاهد، والحكم، والأعمش: ومن عنده علم الكتاب بجعل من حرف جر، وجر ما بعده به، وارتفاع علم بالابتداء، والجار والمجرو في موضع الجر. وقرأ علي أيضاً وابن السميقع، والحسن بخلاف عنه. ومن عنده بجعل من حرف جر علم الكتاب، بجعل علم فعلاً مبنياً للمفعول، والكتاب رفع به. وقرئ ومن عنده بحرف جر علم الكتاب مشدداً مبنياً للمفعول، والضمير في عنده في هذه القراآت الثلاث عائد على الله تعالى. وقال الزمخشري في القراءة التي وقع فيها عنده صلة يرتفع العلم بالمقدر في الظرف فيكون فاعلاً، لأنّ الظرف إذا وقع صلة أو غل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول، فعمل على الفعل كقولك: مررت بالذي في الدار أخوه، فأخوه فاعل، كما تقول: بالذي استقر في الدار أخوه انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري ليس على وجه التحتم، لأنّ الظرف والجار والمجرور إذا وقعا صلتين أو حالين أو خبرين، إما في الأصل، وإما في الناسخ، أو تقدمهما أداة نفي، أو استفهام، جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعل وهو الأجود، وجاز أن يكون ذلك المرفوع مبتدأ، والظرف أو الجار والمجرور في موضع رفع خبره، والجملة من المبتدأ والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر، وهذا مبني على اسم الفاعل. فكما جاز ذلك في اسم الفاعل، وإن كان الأحسن إعماله في الاسم الظاهر، فكذلك يجوز في ما ناب عنه من ظرف أو مجرور. وقد نص سيبويه على إجازة ذلك في نحو: مررت برجل حسن وجهه، فأجاز حسن وجهه على رفع حسن على أنه خبر مقدم، وهكذا تلقفنا هذه المسألة عن الشيوخ. وقد يتوهم بعض النشأة في النحو أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مما ذكرناه يتحتم إعماله في الظاهر، وليس كذلك. وقد أعرب الحوفي عنده علم الكتاب مبتدأ وخبراً في صلة من. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون خبراً يعني عنده، والمبتدأ علم الكتاب انتهى. ومن قرأ: ومن عنده، على أنه حرف جر فالكتاب في قراءته هو القرآن، والمعنى: أنه تعالى من جهة فضله وإحسانه علم الكتاب، أو علم الكتاب على القراءتين، أي: علمت معانيه وكونه أعظم المعجزات الباقي على مر الأعصار، فتشريف العبد بعلوم القرآن إنما ذلك من إحسان الله تعالى إليه وتوفيقه على كونه معجزاً، وتوفيقه لإدراك ذلك.
{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)} هذه السورة مكية كلها في قول الجمهور، وعن ابن عباس وقتادة، هي مكية إلا من قوله: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً} الآية إلى قوله {إلى النار} وارتباط أول هذه السورة بالسورة قبلها واضح جداً، لأنه ذكر فيها: {ولو أن قرآناً} ثم {وكذلك أنزلناه حكماً عربياً} ثم {ومن عنده علم الكتاب} فناسب هذا قوله الر كتاب أنزلناه إليك. وأيضاً فإنهم لما قالوا على سبيل الاقتراح {لولا أنزل عليه آية من ربه} وقيل له: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} أنزل الر كتاب أنزلناه إليك كأنه قيل: أو لم يكفهم من الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات هي الضلال، إلى النور وهو الهدى. وجوزوا في إعراب الر أن يكون في موضع رفع بالابتداء، وكتاب الخبر، أو في موضع رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الر، وفي موضع نصب على تقدير: الزم أو اقرأ الر. وكتاب أنزلناه إليك جملة مفسرة في هذين الإعرابين، وكتاب مبتدأ. وسوغ الابتداء به كونه موصوفاً في التقدير أي: كتاب أي: عظيم أنزلناه إليك. وجوزوا أن يكون كتاب خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا كتاب، وأنزلناه جملة في موضع الصفة. وفي قوله: أنزلناه. وإسناد الإنزال إلى نون العظمة ومخاطبته تعالى بقوله إليك، وإسناد الإخراج إليه عليه الصلاة والسلام، تنويه عظيم وتشريف له صلى الله عليه وسلم من حيث المشاركة في تحصيل الهداية بإنزاله تعالى، وبإخراجه عليه الصلاة والسلام، إذ هو الداعي والمنذر، وإن كان في الحقيقة مخترع الهداية هو الله تعالى. والناس عام، إذ هو مبعوث إلى الخلق كلهم، والظلمات والنور مستعاران للكفر والإيمان. ولما ذكر علة إنزال الكتاب وهي قوله: لتخرج قال: بإذن ربهم، أي: ذلك الإخراج بتسهيل مالكهم الناظر في مصالحهم، إذ هم عبيده، فناسب ذكر الرب هنا تنبيهاً على منة المالك، وكونه ناظراً في حال عبيدة. وبإذن ظاهره التعلق بقوله: لتخرج. وجوز أبو البقاء أن يكون بإذن ربهم في موضع الحال قال: أي مأذوناً لك. وقال الزمخشري: بإذن ربهم بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. والظاهر أن قوله: إن صراط، بدل من قوله إلى النور، ولا يضر هذا الفصل بين المبدل منه والبدل، لأنّ بإذن معمول للعامل في المبدل منه وهو لتخرج. وأجاز الزمخشري أن يكون إلى صراط على وجه الاستئناف، كأنه قيل: إلى أي نور، فقيل: إلى صراط العزيز الحميد. وقرئ: ليخرج مضارع خرج بالياء بنقطتين من تحتها، والناس رفع به. ولما كان قوله: إلى النور، فيه إبهام مّا أوضحه بقوله: إلى صراط. ولما تقدم شيئان أحدهما إسناد إنزال هذا الكتاب إليه. والثاني إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة وذلك من حيث إنزال الكتاب، وصفة الحمد المتضمنة استحقاقه الحمد من حيث الإخراج من الظلمات إلى النور، إذ الهداية إلى الإيمان هي النعمة التي يجب على العبد الحمد عليها والشكر. وتقدمت صفة العزيز، لتقدم ما دل عليها، وتليها صفة الحميد لتلو ما دل عليها. وقرأ نافع وابن عامر الله بالرفع فقيل: مبتدأ محذوف أي: هو الله. وهذا الإعراب أمكن لظهور تعلقه بما قبله، وتفلته على التقدير الأول. وقرأ باقي السبعة والأصمعي عن نافع: الله بالجر على البدل في قول ابن عطية، والحوفي، وأبي البقاء. وعلى عطف البيان في قول الزمخشري قال: لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي يحق له العبادة، كما غلب النجم على الثريا انتهى. وهذا التعليل لا يتم إلا على تقدير: أن يكون أصله الإله، ثم نقلت الحركة إلى لام التعريف وحذفت الهمزة، والتزم فيه النقل والحذف، ومادته إذ ذاك الهمزة واللام والهاء، وقد تقدمت الأقوال في هذا اللفظ في البسملة أول الحمد. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: لا تقدم صفة على موصوف إلى حيث سمع وذلك قليل، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان: أحدهما: أن تقدم الصفة وتبقيتها على ما كانت عليه، وفي إعراب مثل هذا وجهان: أحدهما: إعرابه نعتاً مقدماً، والثاني: أن يجعل ما بعد الصفة بدلاً. والوجه الثاني: أن تضيف الصفة إلى الموصوف إذا قدمتها انتهى. فعلى هذا الذي ذكره ابن عصفور يجوز أن يكون العزيز الحميد يعربان صفتين متقدمتين، ويعرب لفظ الله موصوفاً متأخراً. ومما جاء فيه تقديم ما لو تأخير لكان صفة، وتأخير ما لو تقدم لكان موصوفاً قول الشاعر: والمؤمن العائذات الطير يمسحها *** ركبان مكة بين الغيل والسعد فلو جاء على الكثير لكان التركيب: والمؤمن الطير العائذات، وارتفع ويل على الابتداء، وللكافرين خبره. لما تقدم ذكره الظلمات دعا بالهلكة على من لم يخرج منها، ومن عذاب شديد في موضع الصفة لويل. ولا يضر الفصل والخبر بين الصفة والموصوف، ولا يجوز أن يكون متعلقاً بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر وما يتعلق به بالخبر. ويظهر من كلام الزمخشري أنه ليس في موضع الصفة. قال: (فإن قلت): ما وجه اتصال قوله من عذاب شديد بالويل؟ قلت: لأن المعنى أنهم يولون من عذاب شديد ويضجون منه، ويقولون يا ويلاه كقوله: {دعوا هنالك ثبورا} انتهى. وظاهره يدل على تقديره عامل يتعلق به من عذاب شديد، ويحتمل هذا العذاب أن يكون واقعاً بهم في الدنيا، أو واقعاً بهم في الآخرة. والاستحباب الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة، لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخر. ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب وأجاب، ولما ضمن معنى الإيثار عدي بعلى. وجوزوا في إعراب الذين أن يكون مبتدأ خبره أولئك في ضلال بعيد، وأن يكون معطوفاً على الذم، إما خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين، وإما منصوباً بإضمار فعل تقديره أذم، وأن يكون بدلا، وأن يكون صفة للكافرين. ونص على هذا الوجه الأخير الحوفي والزمخشري وأبو البقاء، وهو لا يجوز، لأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله: من عذاب شديد، سواء كان من عذاب شديد في موضع الصفة لويل، أم متعلقاً بفعل محذوف أي: يضجون ويولولون من عذاب شديد. ونظيره إذا كان صفة أن تقول: الدار لزيد الحسنة القرشي، فهذا التركيب لا يجوز، لأنك فصلت بين زيد وصفته بأجنبي منهما وهو صفة الدار، والتركيب الفصيح أن تقول: الدار الحسنة لزيد القرشي، أو الدار لزيد القرشي الحسنة وقرأ الحسن: ويصدون مضارع أصد، الداخل عليه همزة النقل من صد اللازم صدوداً. وتقدم الكلام على قوله تعالى: {ويبغونها عوجاً} في آل عمران، وعلى وصف الضلال بالبعد قوله عز وجل: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه.....}.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)} سبب نزولها أنّ قريشاً قالوا: ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي؟ فنزلت. وساق قصة موسى أنه تعالى أرسله إلى قومه بلسانه، أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور، كما أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور. والظاهر أن قوله: وما أرسلنا من رسول، العموم فيندرج فيه الرسول عليه الصلاة والسلام. فإن كانت الدعوة عامة للناس كلهم، أو اندرج في اتباع ذلك الرسول من ليس من قومه، كان من لم تكن لغته لغة ذلك النبي موقوفاً على تعلم تلك اللغة حتى يفهمها، وأن يرجع في تفسيرها إلى من يعلمها. وقيل: في الكلام حذف تقديره: وما أرسلنا من رسول قبلك إلا بلسان قومه، وأنت أرسلناك للناس كافة بلسان قومك، وقومك يترجمون لغيرهم بألسنتهم، ومعنى بلسان قومه: بلغة قومه. وقرأ أبو السمال، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني: بلسن بإسكان السين، قالوا: هو كالريش والرياش. وقال صاحب اللوامح: واللسن خاص باللغة، واللسان قد يقع على العضو، وعلى الكلام. وقال ابن عطية مثل ذلك قال: اللسان في هذه الآية يراد به اللغة، ويقال: لسن ولسان في اللغة، فأما العضو فلا يقال فيه لسن. وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدري: لسن بضم اللام والسين، وهو جمع لسان كعماد وعمد. وقرئ أيضاً بضم اللام وسكون السين مخفف كرسل ورسل، والضمير في قومه عائد على رسول أي: قوم ذلك الرسول. وقال الضحاك: والضمير في قومه عائد على محمد صلى الله عليه وسلم قال: والكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أداها كل نبي بلغة قومه. قال الزمخشري: وليس بصحيح، لأنّ قوله: ليبين لهم، ضمير القوم وهم العرب، فيؤدي إلى أنّ الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، وهذا معنى فاسد انتهى. وقال الكلبي: جميع الكتب أدت إلى جبريل بالعربية، وأمره تعالى أن يأتي رسول كل قوم بلغتهم. وأورد الزمخشري هنا سؤالاً وابن عطية أخرهما في كتابيهما، ويقول: قامت الحجة على البشر بإذعان الفصحاء الذين يظن بهم القدرة على المعارضة وإقرارهم بالعجز، كما قامت بإذعان السحرة لموسى، والأطباء لعيسى عليهما السلام. وبين تعالى العلة في كون من أرسل من الرسل بلغة قومه وهي التبيين لهم، ثم ذكر أنه تعالى يضل من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته، فليس على ذلك الرسول غير التبليغ والتبيين، ولم يكلف أن يهدي بل ذلك بيد الله على ما سبق به قضاؤه وهو العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الواضع الأشياء على ما اقتضته حكمته وإرادته. وقال الزمخشري: والمراد بالإضلال التخلية ومنع الإلطاف، وبالهداية التوفيق واللطف، وكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان، وهو العزيز فلا يغلب على مشيئته، الحكيم فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف انتهى. وهو على طريقة الاعتزال والجمهور على تفسير قوله: بآياتنا، إنها تسع الآيات التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام. وقيل: يجوز أن يراد بها آيات التوراة، والتقدير: كما أرسلناك يا محمد بالقرآن بلسان عربي وهو آياتنا، كذلك أرسلنا موسى بالتوارة بلسان قومه، وأن أخرج يحتمل أن أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية، ويضعف زعم من زعم أنها زائدة. وفي قوله: قومك خصوص لرسالته إلى قومه، بخلاف لتخرج الناس، والظاهر أنّ قومه هم بنو إسرائيل. وقيل: القبط. فإن كانوا القبط فالظلمات هنا الكفر، والنور الإيمان، وإن كانوا بني إسرائيل وقلنا: إنهم كلهم كانوا مؤمنين، فالظلمات ذل العبودية، والنور العزة بالدين وظهور أمر الله. وإن كانوا أشياعاً متفرقين في الدين، قوم مع القبط في عبادة فرعون، وقوم على غير شيء، فالظلمات الكفر والنور الإيمان. قيل: وكان موسى مبعوثاً إلى القبط وبني إسرائيل. وقيل: إلى القبط بالاعتراف بوحدانية الله، وأن لا يشرك به، والإيمان بموسى، وأنه نبي من عند الله، وإلى بني إسرائيل بالتكليف وبفروع شريعته إذ كانوا مؤمنين. ويحتمل وذكرهم أن يكون أمراً مستأنفاً، وأن يكون معطوفاً على أن أخرج، فيكون في حيزان. وأيام الله قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: نعم الله عليهم، ورواه أبي مرفوعاً. ومنه قول الشاعر: وأيام لنا غرّ طوال *** عصينا الملك فيها إن ندينا وعن ابن عباس أيضاً، ومقاتل، وابن زيد: وقائعه ونقماته في الأمم الماضية، ويقال: فلان عالم بأيام العرب أي وقائعها وحروبها وملاحمها: كيوم ذي قار، ويوم الفجار، ويوم فضة وغيرها. وروي نحوه عن مالك قال: بلاؤه. وقال الشاعر: وأيامنا مشهورة في عدونا *** أي وقائعنا. وعن ابن عباس أيضاً: نعماؤه وبلاؤه، واختاره الطبري، فنعماؤه: بتظليله عليهم الغمام، وإنزال المنّ والسلوى، وفلق البحر. وبلاؤه: باستعباد فرعون لهم، وتذبيح أبنائهم، وإهلاك القرون قبلهم. وفي حديث أبيّ في قصة موسى والخضر عليهما السلام، بينما موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله، وأيام الله بلاؤه ونعماؤه، واختار الطبري هذا القول الآخر. ولفظة الأيام تعم المعنيين، لأنّ التذكير يقع بالوجهين جميعاً. وفي هذه اللفظة تعظيم الكوائن المذكر بها. وعبر عنها بالظرف الذي وقعت فيه. وكثيراً ما يقع الإسناد إلى الظرف، وفي الحقيقة الإسناد لغيرها كقوله: بل مكر الليل والنهار، ومن ذلك قولهم: يوم عبوس، ويوم عصيب، ويوم بسام. والحقيقة وصف ما وقع فيه من شدّة أو سرور. والإشارة بقوله: إن في ذلك، إلى التذكير بأيام الله. وصبار، شكور، صفتا مبالغة، وهما مشعرتان بأنّ أيام الله المراد بهما بلاؤه ونعماؤه أي: صبار على بلائه، شكور لنعمائه. فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم، أو بما أفاض عليهم من النعم، تنبه على ما يجب عليه من الصبر إذا أصابه بلاء، من والشكر إذا أصابته نعماء، وخص الصبار والشكور لأنهما هما اللذان ينتفعان بالتذكير والتنبيه ويتعظان به. وقيل: أراد لكل مؤمن ناظر لنفسه، لأنّ الصبر والشكر من سجايا أهل الإيمان.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)} لما تقدم أمره تعالى لموسى بالتذكير بأيام الله، ذكرهم بما أنعم تعالى عليهم من نجاتهم من آل فرعون، وفي ضمنها تعداد شيء مما جرى عليهم من نقمات الله. وتقدم إعراب إذ في نحو هذا التركيب في قوله: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء} وتفسير نظير هذه الآية، إلا أنَّ هنا: ويذبحون بالواو، وفي البقرة بغير واو، وفي الأعراف {يقتلون} فحيث لم يؤت بالواو وجعل الفعل تفسيراً لقوله: يسومونكم. وحيث أتى بها دلّ على المغايرة. وأنّ سوم سوء العذاب كان بالتذبيح وبغيره، وحيث جاء يقتلون جاء باللفظ المطلق المحتمل للتذبيح، ولغيره من أنواع القتل. وقرأ ابن محيصن: ويذبحون مضارع ذبح ثلاثياً، وقرأ زيد بن علي كذلك، إلا أنه حذف الواو. وتقدم شرح تأذن وتلقيه بالقسم في قوله في الأعراف: {وإذ تأذن ربك ليبعثن} واحتمل إذ أن يكون منصوباً باذكروا، وأن يكون معطوفاً على إذ أنجاكم، لأنّ هذا الإعلام بالمزيد على الشكر من نعمه تعالى. والظاهر أنّ متعلق الشكر هو الإنعام أي: لئن شكرتم إنعامي، وقاله الحسن والربيع. قال الحسن: لأزيدنكم من طاعتي. وقال الربيع: لأزيدنكم من فضلي. وقال ابن عباس: أي لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم في الثواب. وكأنه راعى ظاهر المقابلة في قوله: ولئن كفرتم إن عذابي لشديد. وظاهر الكفر المراد به الشرك، فلذلك فسر الشكر بالتوحيد والطاعة وغيره. قال: ولئن كفرتم، أي نعمتي فلم تشكروها، رتب العذاب الشديد على كفران نعمة الله تعالى، ولم يبين محل الزيادة، فاحتمل أن يكون في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما، وجاء التركيب على ما عهد في القرآن من أنه إذا ذكر الخبر أسند إليه تعالى. وإذ ذكر العذاب بعده عدل عن نسبته إليه فقال: لأزيدنكم، فنسب الزيادة إليه وقال: إنّ عذابي لشديد، ولم يأت التركيب لأعذبنكم، وخرج في لأزيدنكم بالمفعول، وهنا لم يذكر، وإن كان المعنى عليه أي: إنّ عذابي لكم لشديد. وقرأ عبد الله: وإذ قال ربكم، كأنه فسر قوله: تأذن، لأنه بمعنى أذن أي: أعلم، وأعلم يكون بالقول. ثم نبه موسى عليه السلام قومه على أنّ الباري تعالى، وإن أوعد بالعذاب الشديد على الكفر، فهو غير مفتقر إلى شكركم، لأنه تعالى هو الغني عن شكركم، الحميد المستوجب الحمد على ما أسبغ من نعمه، وإن لم يحمده الحامدون، فثمرة شكركم إنما هي عائدة إليكم. وأنتم خطاب لقومه وقال: ومن في الأرض يعني: الناس كلهم، لأنّ من كان في العالم العلوي وهم الملائكة لا يدخلون في من في الأرض، وجواب أنْ تكفروا محذوف لدلالة المعنى التقدير: فإنما ضرر كفركم لاحق بكم، والله تعالى متصف بالغني المطلق. والحمد سواء. كفروا أم شكروا، وفي خطابه لهم تحقير لشأنهم، وتعظيم لله تعالى، وكذلك في ذكر هاتين الصفتين.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)} الظاهر أن هذا من خطاب موسى لقومه. وقيل: ابتداء خطاب من الله لهذه الأمة، وخبر قوم نوح وعاد وثمود قد قصه الله في كتابه، وتقدم في الأعراف وهود، والهمزة في ألم للتقرير والتوبيخ. والظاهر أنّ والذين في موضع خفض عطفاً على ما قبله، إما على الذين، وإما على قوم نوح وعاد وثمود. قال الزمخشري: والجملة من قوله: لا يعلمهم إلا الله، اعتراض والمعنى: أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله انتهى. وليست جملة اعتراض، لأنّ جملة الاعتراض تكون بين جزءين، يطلب أحدهما الآخر. وقال أبو البقاء: تكون هذه الجملة حالاً من الضمير في من بعدهم، فإن عنى من الضمير المجرور في بعدهم فلا يجوز لأنه حال مما جر بالإضافة، وليس له محل إعراب من رفع أو نصب، وإن عنى من الضمير المستقر في الجار والمجرور النائب عن العامل أمكن. وقال أبو البقاء: أيضاً ويجوز أن يكون مستأنفاً، وكذلك جاءتهم. وأجاز الزمخشري وتبعه أبو البقاء: أن يكون والذين مبتدأ، وخبره لا يعلمهم إلا الله. وقال الزمخشري: والجملة من المبتدأ والخبر وقعت اعتراضاً انتهى. وليست باعتراض، لأنها لم تقع بين جزءين: أحدهما يطلب الآخر. والضمير في جاءتهم عائد على الذين من قبلكم، والجملة تفسيرية للنبأ. والظاهر أنّ الأيدي هي الجوارح، وأنّ الضمير في أيديهم وفي أفواههم عائد على الذين جاءتهم الرسل. وقال ابن مسعود، وابن زيد أي: جعلوا، أي: أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم ليعضوها غيظاً مما جاءت به الرسل. وقال ابن زيد: عضوا عليكم الأنامل من الغيظ. والعض بسبب مشهور من البشر. وقال الشاعر: قد أفنى أنامله أزمة *** وأضحى يعض على الوظيفا وقال آخر: لو أن سلمى أبصرت تخددي *** ودقة في عظم ساقي ويدي وبعد أهلي وجفاء عوّدي *** عضت من الوجد بأطراف اليد وقال ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم. وقال أبو صالح: لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله إليكم، وأشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أنْ اسكت تكذيباً له، ورداً لقوله، واستبشاعاً لما جاء به. وقيل: ردّوا أيديهم في أفواههم ضحكاً واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه. وقيل: أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم: إنا كفرنا بما أرسلتم به أي: هذا جواب لكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق. وقيل: الضميران عائدان على الرسل قاله: مقاتل، قال: أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم. وقال الحسن وغيره: جعلوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل ردًّا لقولهم، وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم، فعلى هذا الضمير في أيديهم عائد على الكفار، وفي أيديهم عائد على الرسل. وقيل: المراد بالأيدي هنا النعم، جمع يد المراد بها النعمة أي: ردوا نعم الأنبياء التي هي أجلّ النعم من مواعظهم ونصائحهم، وما أوحي إليهم من الشرائع والآيات في أفواه الأنبياء، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها فكأنهم ردوها في أفواههم، ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل. وقيل: الضمير في أفواههم على هذا القول عائد على الكفار، وفي بمعنى الباء أي: بأفواههم، والمعنى: كذبوهم بأفواههم. وفي بمعنى الباء يقال: جلست في البيت، وبالبيت. وقال الفراء: قد وجدنا من العرب من يجعل في موضع الباء فتقول: أدخلك الله الجنة، وفي الجنة. وأنشد: وارغب فيها من لقيط ورهطه *** ولكني عن شنبس لست أرغب يريد: أرغب بها. وقال أبو عبيدة: هذا ضرب مثل أي: لم يؤمنوا ولم يجيبوا. والعرب تقول للرجل إذا سكت عن الجواب وأمسك: رد يده في فيه، وقاله الأخفش أيضاً. وقال القتبي: لم يسمع أحد من العرب يقول: رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به انتهى. ومن سمع حجة على من لم يسمع هذا أبو عبيدة والأخفش نقلا ذلك عن العرب، فعلى ما قاله أبو عبيدة يكون ذلك من مجاز التمثيل، كان الممسك عن الجواب الساكت عنه وضع يده فيه. وقد رد الطبري قول أبي عبيدة وقال: إنهم قد أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم به، ولا يرد ما قاله الطبري، لأنه يريد أبو عبيدة أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضي الذي يقتضيه مجيء الرسل بالبينات، وهو الاعتراف بالإيمان والتصديق للرسل. قال ابن عطية: ويحتمل أن يتجوز في لفظة الأيدي أي: أنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوا بأفواههم من التكذيب، فكان المعنى: ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي: في أقوالهم، وعبر عن جميع المدافعة بالأيدي، إذ الأيدي موضع أشد المدافعة والمرادة انتهى. بادروا أولاً إلى الكفر وهو التكذيب المحض، ثم أخبروا بأنهم في شك وهو التردد، كأنهم نظروا بعض نظر اقتضى أن انتقلوا من التكذيب المحض إلى التردد، أو هما قولان من طائفتين: طائفة بادرت بالتكذيب والكفر، وطائفة شكت، والشك في مثل ما جاءت به الرسل كفر. وقرأ طلحة: مما تدعونا بإدغام نون الرفع في الضمير، كما تدغم في نون الوقاية في مثل: أتحاجوني والمعنى: مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله. ومريب صفة توكيدية، ودخلت همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار على الظرف الذي هو خبر عن المبتدأ، لأنّ الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه. وقدر مضاف فقيل: أفي إلاهية الله. وقيل: أفي وحدانيته، ثم نبههم على الوصف الذي يقتضي أنْ لا يقع فيه شك البتة وهو كونه منشئ العالم وموجده، فقال: فاطر السموات والأرض. وفاطر صفة لله، ولا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ، فيجوز أن تقول: في الدار زيد الحسنة، وإن كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد. وقرأ زيد بن علي: فاطر نصباً على المدح، ولما ذكر أنه موجد العالم، ونبه على الوصف الذي لا يناسب أن يكون معه فيه شك ذكر ما هو عليه من اللطف بهم والإحسان إليهم فقال: يدعوكم ليغفر لكم أي: يدعوكم إلى الإيمان كما قال: إذ تدعون إلى الإيمان أو يدعوكم لأجل المغفرة، نحو: دعوته لينصرني. وقال الشاعر: دعوت لما نابني مسوراً *** فلبى فلبى يدي مسور ومن ذنوبكم ذهب أبو عبيدة والأخفش إلى زيادة من أي: ليغفر لكم ذنوبكم. وجمهور البصريين لا يجيز زيادتها في الواجب، ولا إذا جرت المعرفة، والتبعيض يصبح فيها إذ المغفور هو ما بينهم وبين الله، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم. وبطريق آخر يصح التبعيض وهو أنّ الإسلام يجب ما قبله، ويبقى ما يستأنف بعد الإيمان من الذنوب مسكوتاً عنه، هو في المشيئة والوعد إنما هو بغفران ما تقدم، لا بغفران ما يستأنف. وقال الزمخشري ما معناه: إنّ الاستقراء في الكافرين أنْ يأتي من ذنوبكم، وفي المؤمنين ذنوبكم، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولأن لا يسوي بين الفريقين انتهى. ويقال: ما فائدة الفرق في الخطاب والمعنى مشترك، إذ الكافر إذا آمن، والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران وما تخليت فيه مغفرة بعض الذنوب في الكافر الذي آمن هو موجود في المؤمن الذي تاب. وقال أبو عبد الله الرازي: أما قول صاحب الكشاف المراد تمييز خطاب المؤمن من خطاب الكافر، فهو من باب الطامات، لأنّ هذا التبعيض إنْ حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب، وإنْ لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً. وقال: إلى أجل مسمى، إلى وقت قد بيناه، أو بينا مقداره إنْ آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت انتهى. وهذا بناء على القول بالأجلين، وهو مذهب المعتزلة. وتقدم الكلام في طرف من هذا في سورة الأعراف في قوله: {ولكل أمة أجل} وقيل هنا: ويؤخركم إلى أجل مسمى قبل الموت فلا يعاجلكم بالعذاب، إن أنتم إلا بشر مثلنا لا فضل بيننا وبينكم، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصون بالنبوة دوننا؟ قال الزمخشري: ولو أرسل الله إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة انتهى. وهذا على مذهب المعتزلة في تفضيل الملائكة على من سواهم. وقال ابن عطية: في قولهم استبعاد بعثة البشر. وقال بعض الناس: بل أرادوا إحالته، وذهبوا مذهب البراهمة، أو من يقول من الفلاسفة أن الأجناس لا يقع فيها هذا القياس. فظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم حجة، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز أي: بعثتكم محال، وإلا فأتوا بسلطان مبين أي: إنكم لا تفعلون ذلك أبداً، فتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة انتهى. والذي يظهر أنّ طلبهم السلطان المبين وقد أتتهم الرسل بالبينات إنما هو على سبيل التعنت والاقتراح، وإلا فما أتوا به من الدلائل والآيات كاف لمن استبصر، ولكنهم قلدوا آباءهم فيما كانوا عليه من الضلال. ألا ترى إلى أنهم لما ذكروا أنهم مماثلوهم قالوا: تريدون أنْ تصدونا عما كان يعبد آباؤنا أي: ليس مقصودكم إلا أن نكون لكم تبعاً، ونترك ما نشأنا عليه من دين آبائنا. وقرأ طلحة: إن تصدونا بتشديد النون، جعل إن هي المخففة من الثقيلة، وقدر فصلاً بينها وبين الفعل، وكان الأصل أنه تصدوننا، فأدغم نون الرفع في الضمير، والأولى أن تكون أن الثنائية التي تنصب المضارع، لكنه هنا لم يعملها بل ألغاها، كما ألغاها من قرأ {لمن أراد أن يتم الرضاعة} برفع يتم حملاً على ما المصدرية أختها.
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} سلموا لهم في أنهم يماثلونهم في البشرية وحدها، وأما ما سوى ذلك من الأوصاف التي اختصوا بها؛ فلم يكونوا مثلهم، ولم يذكروا ما هم عليه من الوصف الذي تميزوا به تواضعاً منهم، ونسبة ذلك إلى الله. ولم يصرحوا بمنّ الله عليهم وحدهم، ولكن أبرزوا ذلك في عموم من يشاء من عباده. والمعنى: يمن بالنبوة على من يشاء تنبئته. ومعنى بإذن الله: بتسويغه وإرادته، أي الآية التي اقترحتموها ليس لنا الإتيان بها، ولا هي في استطاعتنا، ولذلك كان التركيب: وما كان لنا، وإنما ذلك أمر متعلق بالمشيئة. فليتوكل أمر منهم للمؤمنين بالتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً وأمروها به كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم، وما يجري علينا منكم. ألا ترى إلى قولهم وما لنا أن لا نتوكل على الله ومعناه: وأي عذر لنا في أنْ لا نتوكل على الله وقد هدانا، فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يوجب عليه سلوكه في الدين. والأمر الأول وهو قوله: فليتوكل المؤمنون لاستحداث التوكل، والثاني للثبات على ما استحدثوا من توكيلهم. ولنصبرن جواب قسم، ويدل على سبق ما يجب فيه الصبر وهو الأذى. وما مصدرية، وجوزوا أن يكون بمعنى الذي. والضمير محذوف أي: ما آذيتموناه وكان أصله به، فهل حذف به أو الباء فوصل الفعل إلى الضمير قولان؟ وقرأ الحسن: بكسر لام الأمر في ليتوكل وهو الأصل، وأو لأحد الأمرين أقسموا على أنه لا بد من إخراجهم، أو عودهم في ملتهم كأنهم قالوا: ليكونن أحد هذين. وتقدير أو هنا بمعنى حتى، أو بمعنى إلا أن قول من لم ينعم النظر في ما بعدها، لأنه لا يصح تركيب حتى، ولا تركيب إلا أن مع قوله: لتعودن بخلاف لألزمنك، أو تقضيني حقي والعود هنا بمعنى الصيرورة. أو يكون خطاباً للرسل ومن آمنوا بهم. وغلب حكم من آمنوا بهم لأنهم كانوا قبل ذلك في ملتهم، فيصح إبقاء لتعودن على المفهوم منها أولاً إذ سبق كونهم كانوا في ملتهم، وأما الرسل فلم يكونوا في ملتهم قط. أو يكون المعنى في عودهم إلى ملتهم سكوتهم عنهم، وكونهم إغفالاً عنهم لا يطالبونهم بالإيمان بالله وما جاءت به الرسل. وقرأ أبو حيوة: ليهلكن الظالمين وليسكننكم، بياء الغيبة اعتباراً بقوله: فأوحى إليهم ربهم، إذ لفظه لفظ الغائب. وجاء ولنسكننكم بضمير الخطاب تشريفاً لهم بالخطاب، ولم يأت بضمير الغيبة كما في قوله: فأوحى إليهم ربهم. ولما أقسموا بهم على إخراج الرسل والعودة في ملتهم، أقسم تعالى على إهلاكهم. وأي إخراج أعظم من الإهلاك، بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبداً، وعلى إسكان الرسل ومن آمن بهم وذرياتهم أرض أولئك المقسمين على إخراج الرسل. قال ابن عطية: وخص الظالمين من الذين كفروا، إذ جائز أنْ يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس، وإنما توعد لإهلاك من خلص للظلم. وقال غيره: أراد بالظالمين المشركين، قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} والإشارة بذلك إلى توريث الأرض الأنبياء ومن آمن بهم بعد إهلاك الظالمين كقوله تعالى: {والعاقبة للمتقين} ومقام يحتمل المصدر والمكان. فقال الفراء: مقامي مصدر أضيف إلى الفاعل أي: قيامي عليه بالحفظ لأعماله، ومراقبتي إياه لقوله: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} وقال الزجاج: مكان وقوفه بين يدي للحساب، وهو موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة كقوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} وعلى إقحام المقام أي لمن خافني. والظاهر أن الضمير في واستفتحوا عائد على الأنبياء: أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} ويجوز أن يكون الفتاحة وهي الحكومة، أي: استحكموا الله طلبوا منه القضاء بينهم. واستنصار الرسل في القرآن كثير كقول نوح: {فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجني} وقول لوط: {رب نجني وأهلي مما يعملون} وقول شعيب: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} وقول موسى: {ربنا إنك آتيت فرعون} الآية. وقول ابن زيد: الضمير عائد على الكفار أي: واستفتح الكفار على نحو ما قالت قريش: {عجِّل لنا قطنا} وقول أبي جهل: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة. وكأنهم لما قوي تكذيبهم وأذاهم ولم يعاجلوا بالعقوبة، ظنوا أن ما جاؤوا به باطل فاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح: {فأتنا بما تعدنا} وقوم شعيب: {فأسقط علينا كسفاً} وعاد: {وما نحن بمعذبين} وبعض قريش: {فأمطر علينا حجارة} وقيل: الضمير عائد على الفريقين: الأنبياء، ومكذبيهم، لأنهم كانوا كلهم سألوا أن ينصر المحق ويبطل المبطل. ويقوي عود الضمير على الرسل خاصة قراءة ابن عباس، ومجاهد، وابن محيصن: واستفتحوا بكسر التاء، أمراً للرسل معطوفاً على ليهلكن أي: أوحى إليهم ربهم وقال لهم: ليهلكن، وقال لهم: استفتحوا أي: اطلبوا النصر وسلوه من ربكم. وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا، والفتح المطر في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة الرسول فلم يسقوا، فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيّب رجاء كل جبار عنيد، وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر وهو صديد أهل النار. واستفتحوا على هذا التفسير كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم انتهى. وخاب معطوف على محذوف تقديره: فنصروا وظفروا. وخاب كل جبار عنيد وهم قوم الرسل، وتقدم شرح جبار. والعنيد: المعاند كالخليط بمعنى المخالط على قول من جعل الضمير عائداً على الكفار، كأن وخاب عطفاً على واستفتحوا. ومن ورائه قال أبو عبيدة وابن الأنباري أي: من بعده. وقال الشاعر: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** وليس وراء الله للمرء مهرب وقال أبو عبيدة أيضاً، وقطرب، والطبري، وجماعة: ومن ورائه أي ومن أمامه، وهو معنى قول الزمخشري: من بين يديه. وأنشد: عسى الكرب الذي أمسيت فيه *** يكون وراء فرج قريب وهذا وصف حاله في الدنيا، لأنه مرصد لجهنم، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها، أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف. وقال الشاعر: أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي *** وقوم تميم والفلاة ورائيا وقال آخر: أليس ورائي إن تراخت منيتي *** لزوم العصا نحني عليها الأصابع ووراء من الأضداد قاله: أبو عبيدة والأزهري. وقيل: ليس من الأضداد. وقال ثعلب: اسم لما توارى عنك، سواء كان أمامك أم خلفك. وقيل: بمعنى من خلفه أي: في طلبه كما تقول الأمر من ورائك أي: سوف يأتيك. ويسقى معطوف على محذوف تقديره: يلقى فيها ويسقى، أو معطوف على العامل في من ورائه، وهو واقع موقع الصفة. وارتفاع جهنم على الفاعلية، والظاهر إرادة حقيقة الماء. وصديد قال ابن عطية: هو نعت لماء، كما تقول: هذا خاتم حديد وليس بماء، لكنه لما كان بدل الماء في العرف عندنا يعني أطلق عليه ماء. وقيل: هو نعت على إسقاط أداة التشبيه كما تقول: مررت برجل أسد التقدير: مثل صديد. فعلى قول ابن عطية هو نفس الصديد وليس بماء حقيقة، وعلى هذا القول لا يكون صديداً ولكنه ما يشبه بالصديد. وقال الزمخشري: صديد عطف بيان لماء قال: ويسقى من ماء، فأبهمه إبهاماً، ثم بينه بقوله: صديد انتهى. والبصريون لا يجيزون عطف البيان في النكرات، وأجازه الكوفيون وتبعهم الفارسي، فأعرب {زيتونة} عطف بيان {لشجرة مباركة} فعلى رأي البصريين لا يجوز أن يكون قوله: صديد، عطف بيان. وقال الحوفي: صديد نعت لماء. وقال مجاهد، وقتادة، والضحاك: هو ما يسيل من أجساد أهل النار. وقال محمد بن كعب والربيع: هو غسالة أهل النار في النار. وقيل: هو ما يسيل من فروج الزناة والزواني. وقيل: صديد بمعنى مصدود عنه أي: لكراهته يصد عنه، فيكون مأخوذاً عنه من الصد. وذكر ابن المبارك من حديث أبي أمامة عن الرسول قاله في قوله: {ويسقى من ماء صديد يتجرعه} قال: «يقرب إليه فيتكرهه، فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، وإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره» يتجرعه يتكلف جرعه. ولا يكاد يسيغه أي: ولا يقارب أن يسيغه، فكيف تكون الإساغة. والظاهر هنا انتفاء مقاربة إساغته إياه، وإذا انتفت انتفت الإساغة، فيكون كقوله: {لم يكد يراها} أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها؟ والحديث: «جاءنا ثم يشربه» فإن صح الحديث كان المعنى: ولا يكاد يسيغه قبل أن يشربه ثم شربه، كما جاء {فذبحوها وما كادوا يفعلون} أي وما كادوا يفعلون قبل الذبح. وتجرع تفعل، ويحتمل هنا وجوهاً أن يكون للمطاوعة أي جرعة فتجرع كقولك: علمته فتعلم. وأنْ يكون للتكلف نحو: تحلم، وأن يكون لمواصلة العمل في مهلة نحو: تفهم أي يأخذه شيئاً فشيئاً. وأن يكون موافقاً للمجرد أي: تجرعه كما تقول: عدا الشيء وتعدّاه. ويتجرعه صفة لما قبله، أو حال من ضمير ويسقى، أو استئناف. ويأتيه الموت أي: أسبابه. والظاهر أنّ قوله: من كل مكان معناه من الجهات الست، وذلك لفظيع ما يصيبه من الآلام. وقال إبراهيم التيمي: من كل مكان من جسده، حتى من أطراف شعره. وقيل: حتى من إبهام رجليه، والظاهر أنّ هذا في الآخرة. وقال الأخفش: أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا، سماها موتاً وهذا بعيد، لأنّ سياق الكلام يدل على أنّ هذا من أحوال الكافر في جهنم. وقوله: وما هو بميت لتطاول شدائد الموت، وامتداد سكراته. ومن ورائه الخلاف في من ورائه كالخلاف في من ورائه جهنم. وقال الزمخشري: ومن بين يديه عذاب غليظ أي: في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله وأغلظ. وعن الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد انتهى. وقيل: الضمير في ورائه هو يعود على العذاب المتقدم لا على كل جبار.
{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)} الرماد معروف، وقال ابن عيسى: هو جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار، ويجمع على رمد في الكثرة وأرمدة في القلة، وشذ جمعه على أفعلاء قالوا: أرمداء، ورماد رمدد إذا صار هباء أرق ما يكون. {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد}: ارتفاع مثل على الابتداء، وخبره محذوف تقديره عند سيبويه. فيما يتلى عليكم، أو يقص. والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة، وأعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد، كما تقول: صفة زيد عرضه مصون، وماله مبذول. وقال ابن عطية: ومذهب الكسائي والفراء أنه على إلغاء مثل، وأنّ المعنى: الذين كفروا أعمالهم كرماد. وقال الحوفي: مثل رفع بالابتداء، وأعمالهم بدل من مثل بدل اشتمال. كما قال الشاعر: ما للجمال مشيها وئيداً *** أجندلا يحملن أم حديدا وكرماد الخبر. وقال الزمخشري: أو يكون أعمالهم بدلاً من مثل الذين كفروا على تقدير: مثل أعمالهم، وكرماد الخبر. وقال ابن عطية: وقيل هو ابتداء، وأعمالهم ابتداء ثان، وكرماد خبر للثاني، والجملة خبر الأول. وهذا عندي أرجح الأقوال، وكأنك قلت: المتحصل مثالاً في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة وهي أعمالهم في فسادها وقت الحاجة، وتلاشيها كالرماد الذي تذروه الريح، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى له أثر، ولا يجتمع منه شيء انتهى. وهذا القول الذي رجحه ابن عطية قاله الحوفي، وهو لا يجوز، لأن الجملة الواقعة خبراً عن المبتدأ الأول الذي هو مثل عارية من رابط يعود على المثل، وليست نفس المبتدأ في المعنى، فلا تحتاج إلى رابط. وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام، وعتق الرقاب، وفداء الأسارى، وعقر الإبل للأضياف، وإغاثة الملهوفين، والإجارة، وغير ذلك. شبهها في حبوطها وذهابها هباءً منثوراً لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به، وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف. وقرأ نافع، وأبو جعفر: الرياح على الجمع، والجمهور على الأفراد. ووصف اليوم بقوم عاصف، وإن كان من صفة الريح على سبيل التجوز، كما قالوا: يوم ما حل وكيل نائم. وقال الهروي: التقدير في يوم عاصف الريح، فحذف لتقدم ذكرها كما قال الشاعر: إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف *** يريد كاسف الشمس. وقيل: عاصف من صفة الريح، إلا أنه لما جاء بعد اليوم اتبع إعرابه كما قيل: جحر ضب خرب، يعني: إنه خفض على الجوار. وقرأ ابن أبي إسحاق، وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن: في يوم عاصف على إضافة اليوم لعاصف، وهو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، تقديره: في يوم ريح عاصف. وتقدم تفسير العصوف في يونس في قوله: {جاءتها ريح عاصف} وعلى قول من أجاز إضافة الموصوف إلى صفته يجوز أن تكون القراءة منه: لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء، أي: لا يرون له أثراً من ثواب، كما لا يقدر من الرماد المطير بالريح على شيء. وقيل: لا يقدرون من ثواب ما كسبوا، هو على حذف مضاف. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إنّ ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، هل ذلك نافعه؟ قال: «لا ينفعه لأنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وفي الصحيح أيضاً: " إن الكافر ليطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله منها " ذلك إشارة إلى كونهم بهذه الحال. وعلى مثل هذا الغرر البعيد الذي يعمق فيه صاحبه، وأبعد عن طريق النجاة، والبعيد عن الحق، أو الثواب. وفي البقرة: {لا يقدرون مما كسبوا} على شيء من التفنن في الفصاحة، والمغايرة في التقديم والتأخير، والمعنى واحد.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)} الجزع: عدم احتمال الشدة، وهو نقيض الصبر. قال الشاعر: جزعت ولم أجزع من البين مجزعاً *** وعذبت قلباً بالكواعب مولعا {ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز. وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}: قرأ السلمي ألم تر بسكون الراء، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وتوجيه آخر وهو أنْ ترى حذفت العرب ألفها في قولهم: قام القوم ولو تر ما زيد، كما حذفت ياء لا أبالي في لا أبال، فلما دخل الجازم تخيل أنّ الراء هي آخر الكلمة فسكنت للجازم كما قالوا في: لا أبالي لم أبل، تخيلوا اللام آخر الكلمة. والرؤية هنا بمعنى العلم، فهي من رؤية القلب. وقرأ الإخوان: خالق اسم فاعل، والأرض بالخفض. قرأ باقي السبعة: خلق فعلاً ماضياً، والأرض بالفتح. ومعنى بالحق قال الزمخشري: بالحكمة، والغرض الصحيح، والأمر العظيم، ولم يخلقها عبثاً ولا شهوة. وقال ابن عطية: بالحق أي بما يحق من جهة مصالح عباده، وإنفاذ سابق قضائه، وليدل عليه وعلى قدرته. وقيل: بقوله وكلامه. وقيل: بالحق حال أي محقاً، والظاهر أن قوله: يذهبكم، خطاب عام للناس. وعن ابن عباس: خطاب للكفار. ويأت بخلق جديد: يحتمل أن يكون المعنى: إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بناس آخرين من جنسكم آدميين، ويحتمل من غير جنسكم. والأول قول جمهور المفسرين، وتقدم نحو هذين الاحتمالين للمفسرين في قوله في النساء: {إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين} وبينا في ذلك أنه لا يحتمل إلا الوجه الأول. وما ذلك أي: وما ذهابكم والإتيان بخلق جديد بممتنع ولا متعذر عليه تعالى، لأنه تعالى هو القادر على ما يشاء. وقال الزمخشري: لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فإذا خلص له الداعي إلى شيء، وانتفى الصارف، تكون من غير توقف كتحريك أصبعك. وإذا دعا إليه داع ولم يعترض من دونه صارف انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال لقوله: القادر، لأنهم يثبتون القادرية وينفون القدرة، ولتشبيه فعله تعالى بفعل العبد في قوله: كتحريك أصبعك. وعندنا أن تحريك أصبعنا ليس إلا بقدرة الله تعالى، وأنّ ما نسب إلينا من القدرة ليس مؤثراً في إيجاد شيء. وقال الزمخشري أيضاً: وهذه الآية بيان لإبعادهم في الضلال، وعظيم خطبهم في الكفر بالله، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة، وحكمته البالغة، وأنه هو الحقيق بأن يعبد ويخاف عقابه، ويرجى ثوابه في دار الجزاء انتهى. وبرزوا: أي ظهروا من قبورهم إلى جزاء الله وحسابه. وقال الزمخشري: ومعنى بروزهم لله، والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش، ويظنون أنّ ذلك خافٍ على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم، وعلموا أن الله لا تخفى عليه خافية. وقال ابن عطية: وبرزوا معناه صاروا بالبراز وهي الأرض المتسعة، فاستعير ذلك لجميع يوم القيامة. وقال أبو عبد الله الرازي: تأويل الحكماء أنّ النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها، وذلك هو البروز لله تعالى. وهذا الرجل كثيراً ما يورد كلام الفلاسفة وهم مباينون لأهل الشرائع في تفسير كلام الله تعالى المنزل بلغة العرب، والعرب لا تفهم شيئاً من مفاهيم أهل الفلسفة، فتفسيرهم كاللغز والأحاجي، ويسميهم هذا الرجل حكماء، وهم من أجهل الكفرة بالله تعالى وبأنبيائه. والضمير في وبرزوا عائد على الخلق المحاسبين، وعبر بلفظ الماضي لصدق المخبر به، فكأنه قد وقع. وقرأ زيد بن علي: وبرزوا مبنياً للمفعول، وبتشديد الراء. والضعفاء: الأتباع، والعوام. وكتب بواو في المصحف قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو، ومثله علمؤا بني إسرائيل. والذين استكبروا: هم رؤساؤهم وقاداتهم، استغووا الضعفاء واستتبعوهم. واستكبروا وتكبروا، وأظهروا تعظيم أنفسهم. أو استكبروا عن اتباع الرسل وعبادة الله. وتبعاً: يحتمل أن يكون اسم جمع لتابع، كخادم وخدم، وغائب وغيب. ويحتمل أن يكون مصدراً كقوله: عدل ورضا. وهل أنتم مغنون؟ استفهام معناه توبيخهم إياهم وتقريعهم، وقد علموا أنهم لن يغنوا والمعنى: إنا اتبعناكم فيما كنتم فيه من الضلال كما أمرتمونا وما أغنيتم عنا شيئاً، فلذلك جاء جوابهم: لو هدانا الله لهديناكم، أجابوا بذلك على سبيل الاعتذار والخجل ورد الهداية لله تعالى، وهو كلام حق في نفسه. وقال الزمخشري: من الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معاً بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء، هو بعض عذاب الله أي: بعض بعض عذاب الله انتهى. وهذان التوجيهان اللذان وجههما الزمخشري في من في المكانين يقتضي أولهما التقديم في قوله: من شيء على قوله: من عذاب الله، لأنه جعل من شيء هو المبين بقوله: من عذاب الله. ومن التبيينية يتقدم عليها ما تبينه، ولا يتأخروا لتوجيه لثاني، وهو بعض شيء، هو بعض العذاب يقتضي أن يكون بدلاً، فيكون بدل عام من خاص، لأنّ من شيء أعم من قوله: من عذاب الله، وإن عنى بشيء شيئاً من العذاب فيؤول المعنى إلى ما قدر، وهو بعض بعض عذاب الله. وهذا لا يقال، لأنّ بعضية الشيء مطلقة، فلا يكون لها بعض. ونص الحوفي، وأبو البقاء: على أنّ مِن في قوله: من شيء، زائدة. قال الحوفي: من عذاب الله متعلق بمغنون، ومن في من شيء لاستغراق الجنس، زائدة للتوكيد. وقال أبو البقاء: ومِن زائدة أي: شيئاً كائناً من عذاب الله، ويكون محمولاً على المعنى تقديره: هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكون شيء واقعاً موقع المصدر أي: غنى فيكون من عذاب الله متعلقاً بمغنون انتهى. ومسوغ الزيادة كون الخبر في سياق الاستفهام، فكان الاستفهام دخل عليه وباشره، وصارت الزيادة هنا كالزيادة في تركيب: فهل تغنون. وقال الزمخشري: أجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم بأنّ الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم، ولم يضلوهم إما مدركين الذنب في ضلالهم، وإضلالهم على الله كما حكى الله عنهم. وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا، ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين: {يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء} انتهى. وحكى أبو عبد الله الرازي عن الزمخشري أنهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين: يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء. قال أبو عبد الله الرازي: واعلم أنّ المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب على أهل القيامة، فكان هذا القول منه مخالفاً لأصول مشايخه، لا يقبل منه. وقال الزمخشري أيضاً: ويجوز أن يكون المعنى: لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا. واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. قال أبو عبد الله الرازي: وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأنْ قال: لا يجوز حمل هذا على اللطف، لأن ذلك قد فعله الله. وقيل: لو خلصنا الله من العذاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم. وقال الزمخشري في بسط هذا القول: لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم أي: لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة، كما سلكنا بكم سبيل الهلكة انتهى. وقيل: ويدل على أنّ المراد بالهدى الهدى إلى طريق الجنة، أنه هو الذي التمسوه وطلبوه، فوجب أن يكون المراد. وقال ابن عباس: لو أرشدنا الله لأرشدناكم. والظاهر أنّ قوله: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا إلى آخره، داخل تحت قول المستكبرين، وجاءت جملة بلا واو عطف، كأن كل جملة أنشئت مستقلة غير معطوفة، وإن كانت مرتبطاً بعضها ببعض من جهة المعنى لأنّ سؤالهم: هل أنتم مغنون عنا؟ إنما كان لجزعهم مما هم فيه فقالوا ذلك: سوّوا بينهم، وبينهم في ذلك لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها، يقولون: ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر. ولما قالوا: لو هدانا الله، أتبعوا ذلك بالإقناط من النجاة فقالوا: ما لنا من محيص: أي منجى ومهرب، جزعنا أم صبرنا. وقيل: سواء علينا من كلام الضعفاء والذين استكبروا والتقدير: قالوا جميعاً سواء علينا يخبرون عن حالهم. وتقدم الكلام في مثل هذه التسوية في أول البقرة، والظاهر أن هذه المحاورة بين الضعاء والرؤساء هي في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله. وعن محمد بن كعب، وابن زيد: أن قولهم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، بعد صبرهم في النار خمسمائة عام، وبعد جزعهم مثلها.
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)} المصرخ: المغيث. قال الشاعر: فلا تجزعوا إني لكم غير مصرخ *** وليس لكم عني غناء ولا نصر والصارخ المستغيث، صرخ يصرخ صرخاً وصراخاً وصرخة. قال سلامة بن جندل: كنا إذا ما أتانا صارخ فزع *** كان الصراخ له قرع الظنابيب واصطرخ بمعنى صرخ، وتصرخ تكلف الصراخ، واستصرخ استغاث فقال: استصرخني فاصرخته والصريخ مصدر كالتريخ ويوصف به المغيث والمستغيث من الأضداد. {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم}: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر محاورة الاتباع لرؤسائهم الكفرة، ذكر محاورة الشيطان وأتباعه من الإنس، وذلك لاشتراك الرؤساء والشياطين في التلبس بالإضلال. والشيطان هنا إبليس، وهو رأس الشياطين. وفي حديث الشفاعة من حديث عقبة بن عامر: «أن الكافرين يقولون: وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا، فيقولون: ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فقم أنت فاشفع لنا، فإنّك أضللتنا، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمه أحد ويقول عند ذلك: إن الله قد وعدكم» الآية. وعن الحسن: يقف إبليس خطيباً في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعاً فيقول: إنّ الله وعدكم وعد الحق، يعني: البعث، والجنة، والنار، وثواب المطيع، وعقاب العاصي، فصدقكم وعده، ووعدتكم أنْ لا بعث ولا جنة ولا نار، ولا ثواب ولا عقاب، فأخلفتكم. قضي الأمر تعين قوم للجنة وقوم للنار، وذلك كله في الموقف، وعليه يدل حديث الشفاعة أو بعد حصول أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ويدل عليه ما ذكرناه عن الحسن، وهو تأويل الطبري. وقيل: قضي الأمر قطع وفرغ منه، وهو الحساب، وتصادر الفريقين إلى مقربهما. ووعد الحق يحتمل أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي: الوعد الحق، وأن يكون الحق صفة الله أي: وعده، وأن يكون الحق الشيء الثابت وهو البعث والجزاء على الأعمال أي: فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم، وإلا أنّ دعوتكم الظاهر أنه استثناء منقطع، لأنّ دعاءه إياهم إلى الضلالة ووسوسته ليس من جنس السلطان، وهو الحجة البينة. قيل: ويحتمل أن يريد بالسلطان الغلبة والتسليط والقدرة أي: ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة مني، بل عرضت عليكم شيئاً فأتى رأيكم عليه. وقيل: هو استثناء متصل، لأنّ القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة يكون بالقهر من الحامل، وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بإلقاء الوسواس إليه، فهذا نوع من أنواع التسليط. وقيل: وظاهر هذا الكلام يدل على أنّ الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه، وإزالة عقله، فلا تلوموني. وقرئ: فلا يلوموني بالياء على الغيبة، وهو التفات يريد في ما آتيتموه من الضلال، ولوموا أنفسكم في سوء نظركم واستجابتكم لدعائي من غير تثبت ولا حجة. وقال الزمخشري: ولوموا أنفسكم حيث اغتررتم، وأطعتموني إذ دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم، وهذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة والسعادة ويحصلها لنفسه، وليس من الله إلا التمكين، ولا من الشيطان إلا التزيين، ولو كان الأمر كما يزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإنّ الله قد قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه انتهى. وهو على طريق الاعتزال. ما أنا بمصرخكم قال ابن عباس: بنافعكم. وقال ابن جبير: بمنقذكم، وقال الربيع: بمنجيكم، وقال مجاهد: بمغيثكم، وكلها أقوال متقاربة. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش، وحمزة: بمصرخي بكسر اللياء، وطعن كثير من النحاة في هذه القراءة. قال الفراء: لعلها من وهم القراء، فإنه قل من سلم منهم من الوهم، ولعله ظن أنّ الباء في بمصرخي خافضة للفظ كله، والباء للمتكلم خارجة من ذلك. وقال أبو عبيد: نراهم غلطوا، ظنوا أنّ الباء تكسر لما بعدها. وقال الأخفش: ما سمعت هذا من أحد من العرب، ولا من النحويين. وقال الزجاج: هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف. وقال النحاس: صار هذا إجماعاً، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله على الشذوذ. وقال الزمخشري: هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول: قال لها هل لك يا تافيّ *** قالت له ما أنت بالمرضي وكأنه قدر ياء الإضافة ساكنة، وقبلها ياء ساكنة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح، لأنّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو: عصاي فما بالها، وقبلها باء. (فإن قلت): جرت الياء الأولى مجرى الحر الصحيح لأجل الإدغام، كأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن، فحركت بالكسر على الأصل. (قلت): هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات انتهى. أما قوله: واستشهدوا لها ببيت مجهول، قد ذكر غيره أنه للأغلب العجلى، وهي لغة باقية في أفواه كثير من الناس إلى اليوم، يقول القائل: ما فيّ أفعل كذا بكسر الياء. وأما التقدير الذي قال: فهو توجيه الفراء، ذكره عنه الزجاج. وأما قوله، في غضون كلامه حيث قبلها ألف، فلا أعلم حيث يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف نحو: قعد زيد حيث أمام عمر وبكر، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع. وأما قوله: لأن ياء الإضافة إلى آخره، قد روى سكون الياء بعد الألف. وقرأ بذلك القراء نحو: محياي، وما ذهب إليه من ذكرنا من النحاة لا ينبغي أن يلتفت إليه. واقتفى آثارهم فيها الخلف، فلا يجوز أن يقال فيها: إنها خطأ، أو قبيحة، أو رديئة، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها لغة، لكنه قلَّ استعمالها. ونص قطرب على أنها لغة في بني يرفوع. وقال القاسم بن معن وهو من رؤساء النحويين الكوفيين: هي صواب، وسأل حسين الجعفي أبا عمرو بن العلاء وذكر تلحين أهل النحو فقال: هي جائزة. وقال أيضاً: لا تبالي إلى أسفل حركتها، أو إلى فوق. وعنه أنه قال: هي بالخفض حسنة. وعنه أيضاً أنه قال: هي جائزة. وليست عند الاعراب بذلك، ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم على أبي عمرو تحسينها، فأبو عمرو إمام لغة، وإمام نحو، وإمام قراءة، وعربي صريح، وقد أجازها وحسنها، وقد رووا بيت النابغة: عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة *** لوالده ليست بذات عقارب بفخض الياء من عليّ. وما في بما أشركتموني مصدرية، ومن قبل متعلق بأشركتموني أي: كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم أي: في الدنيا، كقوله: {إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم} وقال: ويوم القيامة يكفرون بشرككم. وقيل: موصولة بمعنى الذي، والتقدير: كفرت بالصنم الذي أشركتمونيه، فحذف العائد. وقيل: من قبل متعلق بكفرت، وما بمعنى الذي أي: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل. تقول: شركت زيداً، فإذا أدخلت همزة النقل قلت: أشركت زيداً عمراً، أي جعلته له شريكاً. إلا أن في هذا القول إطلاق ما على الله تعالى، وما الأصح فيها أنها لا تطلق على آحاد من يعلم. وقال الزمخشري: ونحو ما هذه يعني في إطلاقها على الله ما في قولهم: سبحان ما سخركن لنا انتهى. ومن منع ذلك جعل سبحان علماً على معنى التسبيح، كما جعل برة علماً للمبرة. وما مصدرية ظرفية، ويكون ذلك من إبليس إقراراً على نفسه بكفره الأقدم أي: خطيئتي قبل خطيئتكم. فلا إصراخ عندي أنّ الظالمين لهم عذاب أليم، الظاهر أنه من تمام كلام إبليس، حكى الله عنه ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون تنبيهاً للسامعين على النظر في عاقبتهم، والاستعداد لما لا بد منه. وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول، يخافوا، ويعملوا ما يخلصهم منه، وينجيهم. وقيل: هو من كلام الخزنة يوم ذاك. وقيل: من كلام الله تعالى. ولأبي عبد الله الرازي كلام هنا في الشيطان والملائكة يوقف عليه من تفسيره.
{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)} لما جمع الفريقين في قوله: {وبرزوا لله جميعاً} وذكر شيئاً من أحوال الكفار، ذكر ما آل إليه أمر المؤمنين من إدخالهم الجنة. وقرأ الجمهور: وأدخل ماضيا مبنياً للمفعول. وقرأ الحسن، وعمرو بن عبيد: وأدخل بهمزة المتكلم مضارع أدخل أي: وأدخل أنا. وعلى قراءة الجمهور يحتمل أن يكون الفاعل الملائكة، والظاهر تعلق بإذن ربهم بأدخل. وقال الزمخشري: (فإن قلت): فبم يتعلق يعني بإذن ربهم في القراءة الأخرى، وقولك وأدخلهم أنا بإذن ربهم كلام غير ملئتم؟ (قلت): الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله بإذن ربهم بما بعده أي: تحيتهم فيها سلام. بإذن ربهم يعني: أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم انتهى. فظاهر كلامه أنّ بإذن ربهم معمول لقوله: تحيتهم، ولذلك قال: يعني أنّ الملائكة يحيونهم بإذن ربهم، وهذا لا يجوز، لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل بحرف مصدري والفعل عليه، وهو غير جائز. وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي الحسن: أدخل برفع اللام على الاستقبال بإخبار الله تعالى عن نفسه، فيصير بذلك بإذن ربهم ألطف لهم وأحنى عليهم، وتقدم تفسير {تحيتهم فيها سلام} في أوائل سورة يونس.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} الفرع الغصن من الشجرة. ويطلق على ما يولد من الشيء، والفرع الشعر يقال: رجل أفرع وامرأة فرعاء لمن كثر شعره. وقال الشاعر: وهو امرؤ القيس بن حجر: وفرع يغشى المتن أسواد فاحم *** اجتث الشيء اقتلعه، وجث الشيء قلعه، والجثة شخص الإنسان قاعداً وقائماً. وقال لقيط الأياري: هو الجلاء الذي يجتث أصلكم *** فمن رأى مثل ذا آت ومن سمعا {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}: تقدم الكلام في ضرب مع المثل في أوائل البقرة، فكان يغني ذلك عن الكلام فيه هنا، إلا أنّ المفسرين أبدوا هنا تقديرات، فأعرب الحوفي والمهدوي وأبو البقاء مثلاً مفعولا بضرب، وكلمة بدل من مثلا. وإعرابهم هذا تفريع، على أنّ ضرب مثل لا يتعدى لا إلى مفعول واحد. وقال ابن عطية: وأجازه الزمخشري مثلا مفعول بضرب، وكلمة مفعول أول تفريعاً على أنها مع المثل تتعدى إلى اثنين، لأنها بمعنى جعل. وعلى هذا تكون كشجرة خبر مبتدأ محذوف أي: جعل كلمة طيبة مثلاً هي أي: الكلمة كشجرة طيبة، وعلى البدل تكون كشجرة نعتاً للكلمة. وأجاز الزمخشري: وبدأ به أنْ تكون كلمة نصباً بمضمر أي: جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، وهو تفسير لقوله: ضرب الله مثلاً، كقولك: شرف الأمير زيداً كساه حلة، وحمله على فرس انتهى. وفيه تكلف إضمار لا ضرورة تدعو إليه. وقرئ شاذاً كلمة طيبة بالرفع. قال أبو البقاء: على الابتداء، وكشجرة خبره انتهى. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير: هو أي المثل كلمة طيبة كشجرة، وكشجرة نعت لكلمة، والكلمة الطيبة هي: لا له إلا الله قاله ان عباس، أو الإيمان قاله مجاهد وابن جريج، أو المؤمن نفسه قاله عطية العوفي والربيع، أو جميع طاعاته أو القرآن قاله الأصم، أو دعوة الإسلام قاله ابن بحر، أو الثناء على الله أو التسبيح والتنزيه والشجرة الطيبة المؤمن قاله ابن عباس، أو جوزة الهند قاله علي وابن عباس، أو شجرة في الجنة قاله ابن عباس أيضاً، أو النخلة وعليه أكثر المتأولين وهو قول: ابن مسعود، وابن عباس، وأنس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وابن زيد، وجاء ذلك نصاً من حديث ابن عمر مما خرجه الدارقطني عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الآية فقال: «أتدرون ما هي فوقع في نفسي أنها النخلة» الحديث. وقال أبو العالية: أتيت أنس بن مالك فجيء بطبق عليه رطب فقال أنس: كل يا أبا العالية، فإنها الشجرة الطيبة التي ذكرها الله في كتابه ثم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع بسر فتلا هذه الآية. وفي الترمذي من حديث أنس نحو هذا. وقال الزمخشري: كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة، وشجرة التين، والعنب، والرمان، وغير ذلك انتهى. وقد شبه الرسول المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة، فلا يبعد أن يشبه أيضاً بشجرتها. أصلها ثابت أي: في الأرض ضارب بعروقه فيها. وقرأ أنس بن مالك: كشجرة طيبة ثابت أصلها، أجريت الصفة على الشجرة لفظاً وإن كانت في الحقيقة للسببي. وقراءة الجماعة فيها إسناد الثبوت إلى السببي لفظاً ومعنى، وفيها حسن التقسيم، إذ جاء أصلها ثابت وفرعها في السماء، يريد بالفرع أعلاها ورأسها، وإن كان المشبه به ذا فروع، فيكون من باب الاكتفاء بلفظ الجنس. ومعنى في السماء: جهة العلو والصعود لا المظلة. وفي الحديث: «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً» ولما شبهت الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة كانت الكلمة أصلها ثابت في قلوب أهل الإيمان، وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والأعمال الصالحة هو فرعها يصعد إلى السماء إلى الله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} وما يترتب على ذلك العمل وهو ثواب الله هو جناها، ووصف هذه الشجرة بأربعة أوصاف: الأول قوله: طيبة، أي كريمة المنبت، والأصل في الشجرة له لذة في المطعم. قال الشاعر: طيب الباءة سهل ولهم *** سبل إن شئت في وحش وعر أي ساحتهم سهلة طيبة. الثاني: رسوخ أصلها، وذلك يدل على تمكنها، وأنّ الرياح لا تقصفها، فهي بطيئة الفناء، وما كان كذلك حصل الفرح بوجدانه. والثالث: علو فرعها، وذلك يدل على تمكن الشجرة ورسوخ عروقها، وعلى بعدها عن عفونات الأرض، وعلى صفائها من الشوائب. الرابع: ديمومة وجود ثمرتها وحضورها في كل الأوقات. والحين في اللغة قطعة من الزمان قال الشاعر: تناذرها الراقون من سوء سمها *** تطلقه حيناً وحيناً تراجع والمعنى: تعطي جناها كل وقت وقته الله له. وقال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، أي كل سنة، ولذلك قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحكم، وحماد، وجماعة من الفقهاء: من حلف أنْ لا يفعل شيئاً حيناً فإنه لا يفعله سنة، واستشهدوا بهذه الآية. وقيل: ثمانية أشهر قاله علي ومجاهد، ستة أشهر وهي مدة بقاء الثمر عليها. وقال ابن المسيب: الحين شهران، لأن النخلة تدوم مثمرة شهرين. وقيل: لا تتعطل من ثمر تحمل في كل شهر، وهي شجرة جوز الهند. وقال ابن عباس أيضاً والضحاك، والربيع: كل حين أي كل غدوة وعشية، ومتى أريد جناها ويتخرج على أنها شجرة في الجنة. والتذكر المرجو بضرب المثل هو التفهم والتصور للمعاني المدركة بالعقل، فمتى أبرزت بالمحسوسات لم ينازع فيها الحس والخيال والوهم، وانطبق المعقول على المحسوس، فحصل الفهم والوصول إلى المطلوب. والكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر على قول الجمهور. وقال مسروق: الكذب، وقال: إن تجر دعوة الكفر وما يعزى إليه الكافر. وقيل: كل كلام لا يرضاه الله تعالى. وقرأ أبي: وضرب الله مثلاً كلمة خبيثة، وقرئ: ومثل كلمة بنصب مثل عطفاً على كلمة طيبة. والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل قاله الأكثرون: ابن عباس، ومجاهد، وأنس بن مالك، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الزجاج وفرقة: شجرة الثوم. وقيل: شجرة الكشوت، وهي شجرة لا ورق لها ولا أصل قال: وهي كشوت فلا أصل ولا ثمر. وقال ابن عطية: ويرد على هذه الأقوال أن هذه كلها من النجم وليست من الشجر، والله تعالى إنما مثل بالشجر فلا تسمى هذه شجرة إلا بتحوّز، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثوم والبصل «من أكل من هذه الشجرة» وقيل: الطحلبة. وقيل: الكمأة. وقيل: كل شجر لا يطيب له ثمر. وعن ابن عباس: هي الكافر، وعنه أيضاً: شجرة لم تخلق على الأرض. وقال ابن عطية: والظاهر عندي أنّ التشبيه وقع بشجرة غير معينة، إذا وجدت منها هذه الأوصاف هو أن يكون كالعضاة أو شجرة السموم ونحوها إذا اجتثت أي: اقتلعت جثها بنزع الأصول وبقيت في غاية الوهي والضعف، فتقلبها أقل ريح. فالكافر يرى أنّ بيده شيئاً وهو لا يستقر ولا يغني عنه كهذه الشجرة التي يظن بها على بعد الجاهل أنها شيء نافع، وهي خبيثة الجني غير نافعة انتهى. واجتثت من فوق الأرض مقابل لقوله: أصلها ثابت أي: لم يتمكن لها أصل ولا عرق في الأرض، وإنما هي نابتة على وجه الأرض. ما لها من قرار أي: استقرار. يقال: أقر الشيء قراراً ثبت ثباتاً، شبه بهذه الشجرة القول الذي لم يعضد بحجة، فهو لا يثبت بل يضمحل عن قريب لبطلانه، والقول الثابت هو الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه، واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا كونهم لو فتنوا عن دينهم في الدنيا لثبتوا عليه وما زلوا، كما جرى لأصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير، وكشطت لحومهم بأمشاط الحديد، كما ثبت جرجيس وشمعون وبلال حتى كان يعذب بالرمضاء وهو يقول: أحد أحد. وتثبيتهم في الآخرة كونهم إذا سئلوا عند توافق الإشهاد عن معتقدهم ولم يتلعثوا، ولم يبهتوا، ولم تحيرهم أهوال الحشر. والذين آمنوا عام من لدن آدم إلى يوم القيامة. وقال طاووس وقتادة وجمهور من العلماء: أن تثبيتهم في الدنيا هو مدة حياة الإنسان، وفي الآخرة هو وقت سؤاله في قبره، ورجح هذا القول الطبري. وقال البراء بن عازب وجماعة: في الحياة الدنيا هي وقت سؤاله في قبره، ورواه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الآخرة هو يوم القيامة عند العرض. وقيل: معنى تثبيته في الحياة الدنيا وفي الآخرة هو حياته على الإيمان، وحشره عليه. وقيل: التثبيت في الدنيا الفتح والنصر، وفي الآخرة الجنة والثواب. وما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث البراء من تلاوته عند إيعاد المؤمن في قبره، وسئل وشهد شهادة الإخلاص قوله تعالى: يثبت الله الذين آمنوا الآية، لا يظهر منه يعني: أن الحياة الدنيا هي حياة الإنسان، وأن الآخرة في القبر، ولا أن الحياة الدنيا هي في القبر، وأن الآخرة هي يوم القيامة، بل اللفظ محتمل. ومعنى يثبت: يديمهم عليه، ويمنعهم من الزلل. ومنه قول عبد الله بن رواحة: فثبت الله ما آتاك من حسن *** تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا والظاهر أنّ بالقول الثابت متعلق بقوله: يثبت. وقيل: يتعلق بآمنوا. وسؤال العبد في قبره معتقد أهل السنة. ويضل الله الظالمين أي: الكافرين لمقابلتهم بالمؤمنين، وإضلالهم في الدنيا كونهم لا يثبتون في مواقف الفتن، وتزل أقدامهم وهي الحيرة التي تلحقهم، إذ ليسوا متمسكين بحجة. وفي الآخرة هو اضطرابهم في جوابهم. ولما تقدم تشبيه الكلمة الطيبة على تشبيه الكلمة الخبيثة، تقدم في هذا الكلام من نسبت إليه الكلمة الطيبة وتلاه من نسبت إليه الكلمة الخبيثة. ولما ذكر تعالى ما فعل بكل واحد من القسمين ذكر أنه لا يمكن اعتراض فيما خص به كل واحد منهما، إذ ذاك راجع إلى مشيئته تعالى، إنّ الله يفعل ما يشاء، لا يسئل عما يفعل. وقال الزمخشري: ويفعل الله ما يشاء أي: توجيه الحكمة، لأنّ مشيئة الله تابعة للحكمة من تثبيت المؤمنين وتأييدهم وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال.
|